محمد يس سواق القندران
شوقي بدري
shawgibadri@hotmail.com
قبل قليل اتاني هذا الايميل من الأبن صلاح يس له الشكر و عظيم التعازي والرحمة لأستاذي محمد يس .
أقتباس :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقرأ لسعادتكم كثيرا، ولفت نظري في حكاية من حكايات ام درمان الحبيبة الى نفسك، انك ذكرت بالخير والامتنان اسم عمنا محمد ياسين - سواق قندران زوج خالتك - ويؤسفني ان أبلغك بأن أحد معلميك قد انتقل الى رحمة الله صباح اليوم الاربعاء 30 مايو 2012م، أدناه ما ذكرته عن عمنا محمد ياسين رحمه الله
قبل ان ابلغ الثالثه عشر قضيت اجازه مدرسيه علي ظهر قندراني يخص محمد عبدالله عبدالسلام زوج خالتي . و تعلمت الكثير من الرجل الرائع سائق القندراني محمد يس الدنقلاوي واخيه عوض الذي صار سائقا للبص السريع . و كنت اشاركه النوم في كابينة القندران او علي شوالات الاسمنت و هو يحكي لي عن الدنيا و تجاربه ، لقد كان من خيرة اساتذتي في هذه الدنيا . و كنا ننقل مواد البناء الي اكوبو و الناصر و البيبور و فشلا وجبل بوما و هذا في الخمسينات.
نهاية الاقتباس.
ان المجتمعات لا تبنى بالكلام و السياسة و النظريات . و لكن بالانتاج و إعادة الانتاج و البذل . من عظماء الرجال الذين قابلت ، استاذي محمد يس سائق القندران . يندر ان امر بأي مشكلة أو صعوبة بدون ان اتذكر استاذي محمد يس . بالرغم من أنني قابلته لفترة صغيرة و أنا في الثالثة عشر . ثم تقابلنا في سنة 1963 . و لكن من الصعب ان ينسى الأنسان العظام من الرجال ، أمثال محمد يس رحمة الله عليه .
الحاج محم عبد الله عبد السلام رحمة الله عليه كان أغنى اغنياء أعالي النيل . و هو من أسرة الشيخ العوض عمدة امدرمان . كان مرجعاً في لغة الدينكا . كان يترأس مجالس المصالحة و عرفه الدينكا بفديت . و كان يطلقون عليه ايوبياو و تعني الرجل الكبير اللثري . و كان له ثلاثة قندرانيات من مالكة ( أو أم ) . كان يقود أحدها محمد يس رحمة الله عليه و يساعده اخوه عوض . و كان يسوق الثاني محمد عثمان . أما الثالث فيسوقه الاثيوبي اوسلو و يساعده عثمان الاريتري . و كان محمد يس بمثابة ابن لمحمد عبد الله عبد السلام ، يقدره و يحترمة لأنه كان انساناً رائعاً جديراً بالاحترام .
في سنة 1958 تحصل خالي اسماعيل خليل ابتر متعه الله بالصحة ، و زوج خالتي محمد عبد الله عبد السلام ، على عطاء ضخم لنقل مواد البناء الى الناصر اكوبو و البيبور و فشلا و جبل بوما . و كان الغرض إعادة بناء المنشآت العسكرية و إعادة تأهيل كبرى فشلا الذي دمر في انتفاضة الجنوب 1955 . و لأن تلك المنطقة كانت خالية من الخرصانة و الرمل ، فلقد كانت تلك المواد تشحن بالصنادل إلى ملكال من ام جلالة و الجبلين . ثم تعبء في جوالات في مصلحة الاشغال ، و تنقل مع السيخ و الاخشاب و مواد البناء إلى تلك المناطق . و كان محمد يس رحمة الله عليه يقول مازحاً : ( معناها الحصاصة بتعريفة ) . و كانت العملية شاقة و متعبة و مملة . و لكن قيد الله لها رجلاً عظيماً قادراً على العطاء و البذل و هو محمد يس رحمة الله عليه .
هنالك بشر رائعون . ولدوا و عاشوا بروعة . أحدهم كان استاذي محمد يس رحمة الله عليه . و هو لم يحظى إلّا بتعليم بسيط . إلّا انه كان مطلعاً و له قدر عظيم من المعلومات العامة . و لان منزل خالي كان عبارة عن مركز تجمع لكثير من البشر خاصة في غداء يوم الجمعة ، فلقد كان يمتلئ بالتجار و الموظفين ، و حتى بأساتذتنا في المدرسة الأميرية . منهم ظابط المدرسة عبد الفضيل حسن على من ود سولفاب و المربى هاشم محمد عثمان الذي صار حارس مرمى فريق المريخ . و الداعية الاسلامي دكتور علم النفس فيما بعد محمود برات من أم جر . و جارنا الفاضل عز الدين حسين و هو مصري الجنسية ، و كان يستأجر جزءاً من بيت خالي اسماعيل . و كان الجميع يناقشون أمور الدنيا خاصة مشكلة حلايب التي كانت حديث الساعة ، و الانتخابات التي كان متوقعاً ان يفوز فيها حزب الامة . و كان الجميع يتحدثون . و لكن عندما يتحدث محمد يس كانت أراءوه هي الاصوب و الابعد من التشنج و كان انساناً متابعاً .
و عندما هاجم أحدهم المصريين و وجه هجومه نحو العم عز الدين حسين ، دافع محمد يس عنه . و البعض كان يتشنج لأن العم عز الدين حسين ليس بسوداني . فذهب العم عز الدين و احضر شهادة حصوله على الجنسية السودانية . فقهقه محمد يس رحمة الله عليه و قال : ( لو كدا عز الدين سوادني اكثر مننا كلنا . لأنه الوحيد هنا العنده شهادة انه سوداني . انا غايتو تشهد لي شلوخ الدناقلة دي ) . فضحك الجميع و تغير الامر و صارت الروح ودية . عندما أتت الاجازة المدرسية ، طلبت من محمد يس رحمة الله عليه ان يأخذني في رحلاته . فوافق بدون تردد . و أظن انه هو الذي اقنع خالي اسماعيل .
الآن عندما أفكر في هذا الأمر اقتنع أكثر بعظمة محمد يس رحمة الله عليه . فأنا مثلاً كنت سأجد اليوم مشكلة في ان اصطحب احد ابنائي في رحلة قصيرة . ناهيك عن تلك الرحلات في احراش الجنوب و في طرق غير معبدة و هنالك مشكلة الأكل و النوم . و أنا لم أكن بالصبي الوديع . كنت اسبب المشاكل و ابحث عنها . و أحب المخاطرة و الشيطنة .
كل ما اكتب موضوعاً و كل ما تستعصي على اللغة ، اتذكر محمد يس دائماً . فبينما كان يقوم بقص بعض ( ريش ) الياي حتى يضع الكبيرة في مكان الصغيرة التي تحطمت قبل ربطها بالقفايس ، حتى يوفر مصاريف الاسبيرات التي لم تكن متوفرة في اعالي النيل . كنت اقف معه تحت الترلا العالية و هو يقوم بنشر الريش . و كان يسألني عن نتائج الامتحان التي كادت ان تنتهي . فقلت له مفتخراً أن مستواي فوق الوسط إلا انني ( كويس جداً في العربي ) . فتوقف رحمة الله عليه من النشر و قهقهة قائلاً لي : ( اتذكر الكلام دا يا شوقي . بعد ما تخلص الجامعة ما حا تكون كويس جداً في العربي . لأنه اللغة العربية مش لعب و مافي زول بقدر يقول انا كويس جدا في العربي ) .
لقد كان محمد يس رحمة الله عليه على عكس السودانيين . يقوم بكل شئ بنفسه . و لا يتعب أو يكل . رأيته يقوم بخياطة انبوب اللستك الذي انشرط . ثم يقوم بعملية الرقعة . بنوع من الرقعة الذي يشتعل . و كان يطلب مني الابتعاد عن الدخان . و عندما لا انصاع كان يقول لي : ( اي حاجة بتولع بالطريقة دي بتكون مضرة بالانسان ) . و لم اكن انا أهتم .
القندران كان يحمل ثمانية اضنان في العربة و اثناء عشرة طن في التريلا . و كانت الشحنة ترص بطريقة خاصة و تربط بالاسلاك الحديدية . و كان محمد يس يقف على كل صغيرة و كبيرة . و عملية الشحن تبدأ في الصباح الباكر . و في بعد الظهر ينطلق القندران لكي يصل نهر السوباط في ظرف 45 دقيقة . و يضطر العتالة الأربعة و هم موسى و عبد الله و عبد الله و بيور بأنزال الشحنة . ثم يعبر القندران بالبنطون الذي يدار بالايدي على سلك حديدي سميك مغطى بالشحم . ثم تتبع التريلا . و تكون الشحنة قد تقدمت القندران . و بعد العشاء نبدأ الرحلة الى اكوبو التي نصلها في ظهر اليوم الآخر . و كل هذه العملية تحدث تحت رعاية الرجل الرائع محمد يس ، الذي سهر كل الليل و الجميع نيام على ظهر القندران .
أذكر في أحد الايام عندما دخلنا منطقة نوير لاو أن انفجر احد الاطارات و رأيت الخوف في عيون الكثيرين ، و لكن محمد يس رحمة الله عليه وقف كجنرال متمكن . و حدثت عملية العفرته . و فك العجل الذي كان يحتاج لقوة خارقة . ثم نفخ الاسبير عن طريق انبوب طويل يوصل بالسيارة . و حدث كل هذا بأنظباط و خبرة شبه عسكرية ، و أنطلقنا .
في احدى رحلاتنا أعطونا مجموعة ضخمة من الرجال كان كلهم من الشمال . و كان الغرض ايصالهم الى اكوبوا على ظهر القندران . و كان عددهم يفوق العشرين رجلاً. و هم من الحدادين و النجارين و البنائين . و لم يكن عندهم اي زاد أو ماء . و يبدو ان المسئولين في الاشغال قد شحنوهم مع المواد . و أكتفوا بأن اخبروهم بان المشوار 6 الى 8 ساعات . و في صباح اليوم الثاني بدأوا في الاحتجاج و الصراخ و تبادل الشتائم البذيئة فيما بينهم . و صبّوا جام غضبهم على عوض الذي كان يركب معنا على ظهر القدران . و لم يكن هنالك سوى زمزمييتين صغيرتين في مقدمة القندران . و كان هنالك برميلين ، أحدهم مليئ بالماء و الآخر مليئ بالوقود . إلّا ان الماء كان يقارب درجة الغليان . و طالبوا بالوقوف ، حتى يرتاحوا قليلاً من الجلوس . و بعد فترة طالبوا بالوقوف مرة أخرى ثم تردد بعضهم في الركوب و طالبوا بفرصة أطول . و حدثت مواجهة . كان عوض و العتالة الاربعة على جانب و الآخرون في الجانب الآخر . و العتالة كانوا يقولون لهم : ( و الله كان بقيتوا مية . نقوم عليكم نجرسكم ) .
تدخل محمد يس رحمة الله عليه و بحسم القائد و حنكة الرجل المجرب أفهمهم بأنه ضحية مثلهم . لأنه لم يخبر بأنه سيكون معه ركاب . و إلّا لأستعد للأمر . و عندما اشتكوا من الجوع و العطش قال لهم : ( أهو الود الصغير دا ما راكب معاكم لا اشتكي و لا حاجة و انتوا رجال كبار ) . فقال احدهم : ( الشافع دا مجبور دا شغله . انا معلم باخد جنيه في اليوم ) . فقال له محمد يس : ( الود دا ود مدرسة . اسي ماشي سنة رابعة وسطى . و القندراني دا حق أهله . و اسماعيل خليل التاجر المكتبه في نص البلد خالو أخو امو . دا ود مدرسة ما شكى . تشكوا انتوا الرجال ) . ثم التفت الى الراجل بتاع ماهية جنيه في اليوم : ( انت كان بتاخد جنيه في اليوم ، انا ماهيتي اثنين جنية في اليوم و باخد بونس و باخد حق الركاب . لكن ما بعتبر نفسي احسن من الناس عشان القروش. القروش ما بتسوي الزول ) . و بعدها توقف الشكوى و الانين الى ان وصلنا اكوبو . و كانت تلك هي أحدى دروس استاذي محمد يس رحمة الله عليه .
بخصوص الزمزميتين كانتا مصنوعتين من الألمنيوم . و كانا ملفوفوتين بالخيش المخيط بالسلك . أحداهن كانت أبرد من الأخرى . إلّا انها كانت قد فقدت غطاؤها . و لهذا كان نصف مائها يختفى . و كنت اتحسر لأن الماء يكون ناقصاً . و كان محمد يس رحمة الله عليه يقول لي ضاحكاً : ( ما هي بتبقى ابرد من التانية لأنه ما عندها غطاية ) . و عندما رددت كلامي ، قال لي اخيراً : ( ما هي ابرد من التانية لأنه بتحصل عملية التبخر ، و التبخر بساعد على البرودة . انت يا شوقي مش في المدرسة ، مفروض تعرف الكلام دا ) .
كل الفترة التي قضاها محمد يس رحمة الله عليه معنا في المنزل ، او في تلك الرحلات الشاقة و المشاكل التي لا تنتهي . كان محمد يس رحمة الله عليه يبتسم دائماً و يقابل الناس بود . و يحتفظ بملابسة نظيفة مرتبة . كما كان عنده مقدرة ان يكسب احترام الناس و صداقتهم بسهولة . كان يشيد بعمل الآخرين و يتعامل مع العتالة الاربعة الذين يلازموننا بود . و كانوا يحترمونه جداً خاصة بيور و هو الدينكاوي الوحيد الذي كان يعمل كعتالي في ملكال . و أذكر اننا عندما كنا نسلم المعدات ، كان مكتوباً في السرك رقم و أمامه كلمتان (حديد يو) . و لم يستطع الموظف في اكوبو ان يفهم ما هو المقصود . فقلت انهم يقصدون حديد في شكل الحرف الانجليزي يو . و هو الحديد الذي تثبت عليه دعائم البرندات الخشبية . فأثنى علي محمد يس و جعلني احس بأنني شخص مهم . و كان يتبسط معي و يتناقش معي و كأنني انسان ناضج ، او كأنني صديق . و لم اسمعه ابداً يتحدث او يغلظ في الحديث لأي انسان .
كانت نصائحه في مكانها عادة . و أذكر انه كان يحذر الشماليين قائلاً ان الحديث مع بنات الدينكا الغير متزوجات و المزاح معهن لا يعتبر اساءة . و لكن اي تطاول قد يعتبر اساءة لا تغتفر . و كان يطالبهم باحترام عادات الدينكا و النوير و المورلي و الانجواك و بقية الجنوبيين .
أذكر ان خالي اسماعيل كان غاضباً لأن السائق الاثيوبي اوسلو الذي كان صغير الجسم ، كان يقف متفرجاً للمساعد عثمان و هو يحاول رفع برميل الوقود . و عندما طلب منه خالي اسماعيل ان يساعد عثمان ، انفجر غاضباً . و عندما رجعنا مع محمد يس كان اوسلو ينام في القندران . و كان خالي اسماعيل الذي لم يكن قد تزوج بعد قد اضمر ان يأخذ اوسلو في مشوار خارج ملكال و يقوم بتأديبه . إلّا ان محمد يس رحمة الله عليه قد طيب خاطره ثم أتى بأوسلو الذي اعتذر و انتهى الامر بسلام . و كان يمكن ان يتطور الى شئ سيئ . و حل الامر بروعة محمد يس رحمة الله عليه .
محمد يس رحمة الله عليه أعطاني الكثير . فعندما كان العتالة يقومون بتفريغ الشحنة ، كان يتبسط معي و يتحدث و يحكي لي عن الدنيا . و الآن عندما احتد مع اطفالي أو اضيق ذرعاً بأسئلتهم ، اتذكر محمد يس رحمة الله عليه الذي لم يكن يتضايق من اسئلتي . و كان يستمع إلىّ . و كان يساندني عندما اصطدم ببعض جلابة ملكال بسبب ارائهم العنصرية . و كان له جلد و صبر غير مصدق . و لا أزال اتذكره و هو يقبض بيديه الاثنتين على دينامو القندران الضخم . و عوض يضرب بالمزربة على رأس الدينامو لكي ينفصل . و تتكرر العملية القاسية و هو لا يكل و لا يمل إلى ان تمت العملية و هو يتصبب عرقاً و لا يشتكي . لقد كان محمد يس رحمة الله عليه من الرجال الذين يصنعون الأمة و يقدمون و ينتجون .
هذا الرجل الصلب شهدته و هو يكاد يطير من الفرح في سنة 1958 عندما اتاه خبر ولادة ابنه . و سمعته يتكلم عن ابنته الصغيرة التي لم تكن سعيدة بشقيقها الذي حاز على اهتمام الاسرة . و كانت تقول : ( يرجعوه محل ما جابوه . ما دايراه ) . و كان يقول : ( البت دي ليها حق . بس البت دي ما عارفه انه الدنيا ما دوامة . يوم ليك و يوم عليك . و كل مرة بجي زول جديد ) .
في أحدى رحلاتنا كان من المفروض أن ترافقنا زوجة الباشمهندس يوسف و والدتها . و كن مترددات . و لكن عندما وصلنا اكوبوا قالت السيدة لزوج بنتها : ( السواق كان ود حلال . و انا زاتي من ما شفت شلوخ اهلي الدناقلة ارتحت ) . ألا رحم الله استاذي محمد يس . لقد كان مظهره يدعو الى الثقة و الاطمئنان . و كان رجلاً رائعاً . و كان حاسماً عندما يتستدعي الأمر . فبعد رحلة الحدادين و البنائين و النجارين . رفض ان يأخذ اي عمال آخرين . و أذكره يقول لسعد باشكاتب الأشغال : ( انا ما بشيل أي حاجة غير اسمنت و حصاص و خشب . دا لا بشتكي لا بكورك . عمالكم ديل شوفوا ليهم طريقة تاني ) .
عندما رجعنا من البيبور إلى اكوبو كان هنالك استدعاء بواسطة مفتش المركز لأنه كانت هنالك شكوى بأن القندران خرب المجرى للعربات . و كانت تلك بعد مطرة مبكرة . و ذهب محمد يس رحمة الله عليه و لم يقابله فراش المكتب بود . و تحدث مع موظف آخر و كما سمعت من محمد يس ان الموظف استفسر الآخر من بكلمة ( ني ) و أظنها تعني بالدنقلاوية هو أو من ، لا اذكر . و بعدها تغيرت اللغة و حصل الترحيب كما يحدث عند النوبيين عادةً . و المفتش لم يكن موجوداً . وقبل المغرب و بعد ان خرجنا من اكوبو ، حصلتنا عربة كومر الشرطة و قاموا بأرجاعنا الى اكوبو كمعتقلين . و أخذونا لمنزل المفتش مباشرةً . الذي كان من آل الزبير حمد الملك الدناقلة . و كانت دعوة لفطور رمضان . و كانت تلك آخر رحلاتنا مع محمد يس . و لكن كان يعود بعد كل ثلاثة او اربعة ايام من رحلاته و يقضى معنا يومين في المنزل ثم يرجع . و كنت لا امل صحبته و كان يحكي لي الكثير عن الدنيا و عن رحلاته . محمد يس كان انساناً متطوراً جداً . اذكر انه كان عنده كاميرا . و كان يلتقط الصور . و كانت هنالك صورة تمثلني انا على قرب من جاموس اصطاده رجل بوليس تحت اوامر الامباشا انزوكومارا أو ( ساجن ) . لأنه كان الحاكم الفعلي لبلدة واط . و من كبار تجارها العم سعيد صالح رحمة الله عليه .
في رحلتنا الى اكوبو شاهدنا في الليل جوالين على الطريق كانا قد سقطا من لوري . و توقفنا عند محمد الزين و هو تاجر في مدينة ديرور . و توقفنا في عدة اماكن إلى ان وجدنا التاجر قبل بلدة توي شان . و محمد يس رحمة الله عليه كان يقول ان اللوري كان متجه شرقاً و ان الجوالين كانا قد سقطا على الجانب اليمين من الشارع . وقديماً كانت الحركة على اليمين . و هذه فراسة انسان ذكي .
في ايام الانتخابات كان حزب الأمة يناضل لكي يجد موقعاً في أعالي النيل . و كان محمد يس متحمساً و واعياً سياسياً . و كان يعارض حزب الأمة . و كنت وقتها اعتبر نفسي ود انصار و لا اقبل أي كلام في حزب الأمة . و كان الرجل العظيم الحاج ابو الزيد يمثل حزب الأمة . و هو رجل فاضل يحترمه الجميع . و يركب على جيب مفتوح مكتوب عليه شعار حزب الامة ( حزب الامة رمز القوة ) . و في تلك الايام حضر الأخ سراج سعيد قطب حزب الأمة و قائد كوادرها المصادمة . و كان قد أتى على باخرة السيد عبد الرحمن المهدي الطاهرة . و كانوا يشترون اصوات الجنوبيين . و يحملون الكثير من الهدايا مثل العجلات الرالي .
و كان الوطني الاتحادي ممثلاً بالعضو البرلماني علي كاشف . و كان هنالك القطب العم عبد القادر عبد النبي رحمة الله على الجميع . و في أحد الايام وقفنا على قرية قنطوط جنوب السوباط . وجدنا تجمعاً من الدينكا . تعرفنا وسطهم على الأخ اتيم و صديقه اوو الذي يتميز بقصر القامة . و طلب محمد يس من اتيم ان يخبر أهله بالتصويت للوطني الاتحادي . إلّا ان اتيم قال انه سيصوت لحزب الامة لأنهم وعدوا شيخهم في بلدة اوتل بأنهم سيصوتون للأمة . لأن حزب الأمة قد دفع لشيخهم . و أكتفى محمد يس بأن قال له : ( لا مادام وعدت و حلفت تنفذ وعدك ) . و أحسست هنا بروعة محمد يس في تقبل الآخرين . و كل تلك الليالي على ظهر القندران و النوم في حوش المنزل في ملكال ، لم ينتقد محمد يس ابداً قناعتي او يحاول أن يغير افكاري .
عندما قابلت محمد يس لآخر مرة في سنة 1963 ، كان قد انقضت اربعة سنوات منذ لقائنا الآخير . لمح ضاحكاً بأنني قد صرت رجلاً ملئ هدومي . قضينا ساعات في الحديث و الونسة . و آخيراً قال لي بأن قد لاحظ أن امور خالي اسماعيل قد تضعضعت في ملكال . و أن الدنيا قد تغيرت كثيراً خاصة بعد سيطرة العسكر في أعالي النيل بسبب الاضطرابات . و أن بعض الظباط صاروا يدخلون في التجارة . و صارت الرشوة متفشية لأنعدام الرقابة . و إن اسلوب الخال اسماعيل خليل و اسلوب الحاج محمد عبد الله عبد السلام رحمة الله عليه صار غير ممكناً في التجارة . لأن الصدق و الأمانة و الكلمة قد انتهت . و طلب مني ان افاتح أهلي لكي ينصحوا خالي اسماعيل بترك الجنوب . لأن امانته و انضباطه لن يجدي . و أنه لا يمكن ان يفاتح اسماعيل او يواجهه بهذه الحقيقة . و كان يقول لي : ( انا عارف يا شوقي انت قدر المسئولية دي ) . و افترقنا . قمت انا بمفاتحة اخي كمال ابراهيم بدري الذي هو متزوج بشقيقة والدتي و أمي الاخرى لأن كمال هو اخي غير الشقيق . و انتقل بعدها اسماعيل متعه الله بالصحة الى الشمال . و لا أطن ان حتى اسماعيل يعرف ان تلك كانت نصيحة محمد يس رحمة الله عليه . أخي و استاذي محمد يس رحمة الله عليك . و جزاك الله خيراً لأنك قد احسنت إلىّ كثيراً .
التحية
ع . س . شوقي بدري
///نقلا عن صحيفة الراكوبة الالكترونية/// ١يونيو ٢٠١٢م
شوقي بدري
shawgibadri@hotmail.com
قبل قليل اتاني هذا الايميل من الأبن صلاح يس له الشكر و عظيم التعازي والرحمة لأستاذي محمد يس .
أقتباس :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقرأ لسعادتكم كثيرا، ولفت نظري في حكاية من حكايات ام درمان الحبيبة الى نفسك، انك ذكرت بالخير والامتنان اسم عمنا محمد ياسين - سواق قندران زوج خالتك - ويؤسفني ان أبلغك بأن أحد معلميك قد انتقل الى رحمة الله صباح اليوم الاربعاء 30 مايو 2012م، أدناه ما ذكرته عن عمنا محمد ياسين رحمه الله
قبل ان ابلغ الثالثه عشر قضيت اجازه مدرسيه علي ظهر قندراني يخص محمد عبدالله عبدالسلام زوج خالتي . و تعلمت الكثير من الرجل الرائع سائق القندراني محمد يس الدنقلاوي واخيه عوض الذي صار سائقا للبص السريع . و كنت اشاركه النوم في كابينة القندران او علي شوالات الاسمنت و هو يحكي لي عن الدنيا و تجاربه ، لقد كان من خيرة اساتذتي في هذه الدنيا . و كنا ننقل مواد البناء الي اكوبو و الناصر و البيبور و فشلا وجبل بوما و هذا في الخمسينات.
نهاية الاقتباس.
ان المجتمعات لا تبنى بالكلام و السياسة و النظريات . و لكن بالانتاج و إعادة الانتاج و البذل . من عظماء الرجال الذين قابلت ، استاذي محمد يس سائق القندران . يندر ان امر بأي مشكلة أو صعوبة بدون ان اتذكر استاذي محمد يس . بالرغم من أنني قابلته لفترة صغيرة و أنا في الثالثة عشر . ثم تقابلنا في سنة 1963 . و لكن من الصعب ان ينسى الأنسان العظام من الرجال ، أمثال محمد يس رحمة الله عليه .
الحاج محم عبد الله عبد السلام رحمة الله عليه كان أغنى اغنياء أعالي النيل . و هو من أسرة الشيخ العوض عمدة امدرمان . كان مرجعاً في لغة الدينكا . كان يترأس مجالس المصالحة و عرفه الدينكا بفديت . و كان يطلقون عليه ايوبياو و تعني الرجل الكبير اللثري . و كان له ثلاثة قندرانيات من مالكة ( أو أم ) . كان يقود أحدها محمد يس رحمة الله عليه و يساعده اخوه عوض . و كان يسوق الثاني محمد عثمان . أما الثالث فيسوقه الاثيوبي اوسلو و يساعده عثمان الاريتري . و كان محمد يس بمثابة ابن لمحمد عبد الله عبد السلام ، يقدره و يحترمة لأنه كان انساناً رائعاً جديراً بالاحترام .
في سنة 1958 تحصل خالي اسماعيل خليل ابتر متعه الله بالصحة ، و زوج خالتي محمد عبد الله عبد السلام ، على عطاء ضخم لنقل مواد البناء الى الناصر اكوبو و البيبور و فشلا و جبل بوما . و كان الغرض إعادة بناء المنشآت العسكرية و إعادة تأهيل كبرى فشلا الذي دمر في انتفاضة الجنوب 1955 . و لأن تلك المنطقة كانت خالية من الخرصانة و الرمل ، فلقد كانت تلك المواد تشحن بالصنادل إلى ملكال من ام جلالة و الجبلين . ثم تعبء في جوالات في مصلحة الاشغال ، و تنقل مع السيخ و الاخشاب و مواد البناء إلى تلك المناطق . و كان محمد يس رحمة الله عليه يقول مازحاً : ( معناها الحصاصة بتعريفة ) . و كانت العملية شاقة و متعبة و مملة . و لكن قيد الله لها رجلاً عظيماً قادراً على العطاء و البذل و هو محمد يس رحمة الله عليه .
هنالك بشر رائعون . ولدوا و عاشوا بروعة . أحدهم كان استاذي محمد يس رحمة الله عليه . و هو لم يحظى إلّا بتعليم بسيط . إلّا انه كان مطلعاً و له قدر عظيم من المعلومات العامة . و لان منزل خالي كان عبارة عن مركز تجمع لكثير من البشر خاصة في غداء يوم الجمعة ، فلقد كان يمتلئ بالتجار و الموظفين ، و حتى بأساتذتنا في المدرسة الأميرية . منهم ظابط المدرسة عبد الفضيل حسن على من ود سولفاب و المربى هاشم محمد عثمان الذي صار حارس مرمى فريق المريخ . و الداعية الاسلامي دكتور علم النفس فيما بعد محمود برات من أم جر . و جارنا الفاضل عز الدين حسين و هو مصري الجنسية ، و كان يستأجر جزءاً من بيت خالي اسماعيل . و كان الجميع يناقشون أمور الدنيا خاصة مشكلة حلايب التي كانت حديث الساعة ، و الانتخابات التي كان متوقعاً ان يفوز فيها حزب الامة . و كان الجميع يتحدثون . و لكن عندما يتحدث محمد يس كانت أراءوه هي الاصوب و الابعد من التشنج و كان انساناً متابعاً .
و عندما هاجم أحدهم المصريين و وجه هجومه نحو العم عز الدين حسين ، دافع محمد يس عنه . و البعض كان يتشنج لأن العم عز الدين حسين ليس بسوداني . فذهب العم عز الدين و احضر شهادة حصوله على الجنسية السودانية . فقهقه محمد يس رحمة الله عليه و قال : ( لو كدا عز الدين سوادني اكثر مننا كلنا . لأنه الوحيد هنا العنده شهادة انه سوداني . انا غايتو تشهد لي شلوخ الدناقلة دي ) . فضحك الجميع و تغير الامر و صارت الروح ودية . عندما أتت الاجازة المدرسية ، طلبت من محمد يس رحمة الله عليه ان يأخذني في رحلاته . فوافق بدون تردد . و أظن انه هو الذي اقنع خالي اسماعيل .
الآن عندما أفكر في هذا الأمر اقتنع أكثر بعظمة محمد يس رحمة الله عليه . فأنا مثلاً كنت سأجد اليوم مشكلة في ان اصطحب احد ابنائي في رحلة قصيرة . ناهيك عن تلك الرحلات في احراش الجنوب و في طرق غير معبدة و هنالك مشكلة الأكل و النوم . و أنا لم أكن بالصبي الوديع . كنت اسبب المشاكل و ابحث عنها . و أحب المخاطرة و الشيطنة .
كل ما اكتب موضوعاً و كل ما تستعصي على اللغة ، اتذكر محمد يس دائماً . فبينما كان يقوم بقص بعض ( ريش ) الياي حتى يضع الكبيرة في مكان الصغيرة التي تحطمت قبل ربطها بالقفايس ، حتى يوفر مصاريف الاسبيرات التي لم تكن متوفرة في اعالي النيل . كنت اقف معه تحت الترلا العالية و هو يقوم بنشر الريش . و كان يسألني عن نتائج الامتحان التي كادت ان تنتهي . فقلت له مفتخراً أن مستواي فوق الوسط إلا انني ( كويس جداً في العربي ) . فتوقف رحمة الله عليه من النشر و قهقهة قائلاً لي : ( اتذكر الكلام دا يا شوقي . بعد ما تخلص الجامعة ما حا تكون كويس جداً في العربي . لأنه اللغة العربية مش لعب و مافي زول بقدر يقول انا كويس جدا في العربي ) .
لقد كان محمد يس رحمة الله عليه على عكس السودانيين . يقوم بكل شئ بنفسه . و لا يتعب أو يكل . رأيته يقوم بخياطة انبوب اللستك الذي انشرط . ثم يقوم بعملية الرقعة . بنوع من الرقعة الذي يشتعل . و كان يطلب مني الابتعاد عن الدخان . و عندما لا انصاع كان يقول لي : ( اي حاجة بتولع بالطريقة دي بتكون مضرة بالانسان ) . و لم اكن انا أهتم .
القندران كان يحمل ثمانية اضنان في العربة و اثناء عشرة طن في التريلا . و كانت الشحنة ترص بطريقة خاصة و تربط بالاسلاك الحديدية . و كان محمد يس يقف على كل صغيرة و كبيرة . و عملية الشحن تبدأ في الصباح الباكر . و في بعد الظهر ينطلق القندران لكي يصل نهر السوباط في ظرف 45 دقيقة . و يضطر العتالة الأربعة و هم موسى و عبد الله و عبد الله و بيور بأنزال الشحنة . ثم يعبر القندران بالبنطون الذي يدار بالايدي على سلك حديدي سميك مغطى بالشحم . ثم تتبع التريلا . و تكون الشحنة قد تقدمت القندران . و بعد العشاء نبدأ الرحلة الى اكوبو التي نصلها في ظهر اليوم الآخر . و كل هذه العملية تحدث تحت رعاية الرجل الرائع محمد يس ، الذي سهر كل الليل و الجميع نيام على ظهر القندران .
أذكر في أحد الايام عندما دخلنا منطقة نوير لاو أن انفجر احد الاطارات و رأيت الخوف في عيون الكثيرين ، و لكن محمد يس رحمة الله عليه وقف كجنرال متمكن . و حدثت عملية العفرته . و فك العجل الذي كان يحتاج لقوة خارقة . ثم نفخ الاسبير عن طريق انبوب طويل يوصل بالسيارة . و حدث كل هذا بأنظباط و خبرة شبه عسكرية ، و أنطلقنا .
في احدى رحلاتنا أعطونا مجموعة ضخمة من الرجال كان كلهم من الشمال . و كان الغرض ايصالهم الى اكوبوا على ظهر القندران . و كان عددهم يفوق العشرين رجلاً. و هم من الحدادين و النجارين و البنائين . و لم يكن عندهم اي زاد أو ماء . و يبدو ان المسئولين في الاشغال قد شحنوهم مع المواد . و أكتفوا بأن اخبروهم بان المشوار 6 الى 8 ساعات . و في صباح اليوم الثاني بدأوا في الاحتجاج و الصراخ و تبادل الشتائم البذيئة فيما بينهم . و صبّوا جام غضبهم على عوض الذي كان يركب معنا على ظهر القدران . و لم يكن هنالك سوى زمزمييتين صغيرتين في مقدمة القندران . و كان هنالك برميلين ، أحدهم مليئ بالماء و الآخر مليئ بالوقود . إلّا ان الماء كان يقارب درجة الغليان . و طالبوا بالوقوف ، حتى يرتاحوا قليلاً من الجلوس . و بعد فترة طالبوا بالوقوف مرة أخرى ثم تردد بعضهم في الركوب و طالبوا بفرصة أطول . و حدثت مواجهة . كان عوض و العتالة الاربعة على جانب و الآخرون في الجانب الآخر . و العتالة كانوا يقولون لهم : ( و الله كان بقيتوا مية . نقوم عليكم نجرسكم ) .
تدخل محمد يس رحمة الله عليه و بحسم القائد و حنكة الرجل المجرب أفهمهم بأنه ضحية مثلهم . لأنه لم يخبر بأنه سيكون معه ركاب . و إلّا لأستعد للأمر . و عندما اشتكوا من الجوع و العطش قال لهم : ( أهو الود الصغير دا ما راكب معاكم لا اشتكي و لا حاجة و انتوا رجال كبار ) . فقال احدهم : ( الشافع دا مجبور دا شغله . انا معلم باخد جنيه في اليوم ) . فقال له محمد يس : ( الود دا ود مدرسة . اسي ماشي سنة رابعة وسطى . و القندراني دا حق أهله . و اسماعيل خليل التاجر المكتبه في نص البلد خالو أخو امو . دا ود مدرسة ما شكى . تشكوا انتوا الرجال ) . ثم التفت الى الراجل بتاع ماهية جنيه في اليوم : ( انت كان بتاخد جنيه في اليوم ، انا ماهيتي اثنين جنية في اليوم و باخد بونس و باخد حق الركاب . لكن ما بعتبر نفسي احسن من الناس عشان القروش. القروش ما بتسوي الزول ) . و بعدها توقف الشكوى و الانين الى ان وصلنا اكوبو . و كانت تلك هي أحدى دروس استاذي محمد يس رحمة الله عليه .
بخصوص الزمزميتين كانتا مصنوعتين من الألمنيوم . و كانا ملفوفوتين بالخيش المخيط بالسلك . أحداهن كانت أبرد من الأخرى . إلّا انها كانت قد فقدت غطاؤها . و لهذا كان نصف مائها يختفى . و كنت اتحسر لأن الماء يكون ناقصاً . و كان محمد يس رحمة الله عليه يقول لي ضاحكاً : ( ما هي بتبقى ابرد من التانية لأنه ما عندها غطاية ) . و عندما رددت كلامي ، قال لي اخيراً : ( ما هي ابرد من التانية لأنه بتحصل عملية التبخر ، و التبخر بساعد على البرودة . انت يا شوقي مش في المدرسة ، مفروض تعرف الكلام دا ) .
كل الفترة التي قضاها محمد يس رحمة الله عليه معنا في المنزل ، او في تلك الرحلات الشاقة و المشاكل التي لا تنتهي . كان محمد يس رحمة الله عليه يبتسم دائماً و يقابل الناس بود . و يحتفظ بملابسة نظيفة مرتبة . كما كان عنده مقدرة ان يكسب احترام الناس و صداقتهم بسهولة . كان يشيد بعمل الآخرين و يتعامل مع العتالة الاربعة الذين يلازموننا بود . و كانوا يحترمونه جداً خاصة بيور و هو الدينكاوي الوحيد الذي كان يعمل كعتالي في ملكال . و أذكر اننا عندما كنا نسلم المعدات ، كان مكتوباً في السرك رقم و أمامه كلمتان (حديد يو) . و لم يستطع الموظف في اكوبو ان يفهم ما هو المقصود . فقلت انهم يقصدون حديد في شكل الحرف الانجليزي يو . و هو الحديد الذي تثبت عليه دعائم البرندات الخشبية . فأثنى علي محمد يس و جعلني احس بأنني شخص مهم . و كان يتبسط معي و يتناقش معي و كأنني انسان ناضج ، او كأنني صديق . و لم اسمعه ابداً يتحدث او يغلظ في الحديث لأي انسان .
كانت نصائحه في مكانها عادة . و أذكر انه كان يحذر الشماليين قائلاً ان الحديث مع بنات الدينكا الغير متزوجات و المزاح معهن لا يعتبر اساءة . و لكن اي تطاول قد يعتبر اساءة لا تغتفر . و كان يطالبهم باحترام عادات الدينكا و النوير و المورلي و الانجواك و بقية الجنوبيين .
أذكر ان خالي اسماعيل كان غاضباً لأن السائق الاثيوبي اوسلو الذي كان صغير الجسم ، كان يقف متفرجاً للمساعد عثمان و هو يحاول رفع برميل الوقود . و عندما طلب منه خالي اسماعيل ان يساعد عثمان ، انفجر غاضباً . و عندما رجعنا مع محمد يس كان اوسلو ينام في القندران . و كان خالي اسماعيل الذي لم يكن قد تزوج بعد قد اضمر ان يأخذ اوسلو في مشوار خارج ملكال و يقوم بتأديبه . إلّا ان محمد يس رحمة الله عليه قد طيب خاطره ثم أتى بأوسلو الذي اعتذر و انتهى الامر بسلام . و كان يمكن ان يتطور الى شئ سيئ . و حل الامر بروعة محمد يس رحمة الله عليه .
محمد يس رحمة الله عليه أعطاني الكثير . فعندما كان العتالة يقومون بتفريغ الشحنة ، كان يتبسط معي و يتحدث و يحكي لي عن الدنيا . و الآن عندما احتد مع اطفالي أو اضيق ذرعاً بأسئلتهم ، اتذكر محمد يس رحمة الله عليه الذي لم يكن يتضايق من اسئلتي . و كان يستمع إلىّ . و كان يساندني عندما اصطدم ببعض جلابة ملكال بسبب ارائهم العنصرية . و كان له جلد و صبر غير مصدق . و لا أزال اتذكره و هو يقبض بيديه الاثنتين على دينامو القندران الضخم . و عوض يضرب بالمزربة على رأس الدينامو لكي ينفصل . و تتكرر العملية القاسية و هو لا يكل و لا يمل إلى ان تمت العملية و هو يتصبب عرقاً و لا يشتكي . لقد كان محمد يس رحمة الله عليه من الرجال الذين يصنعون الأمة و يقدمون و ينتجون .
هذا الرجل الصلب شهدته و هو يكاد يطير من الفرح في سنة 1958 عندما اتاه خبر ولادة ابنه . و سمعته يتكلم عن ابنته الصغيرة التي لم تكن سعيدة بشقيقها الذي حاز على اهتمام الاسرة . و كانت تقول : ( يرجعوه محل ما جابوه . ما دايراه ) . و كان يقول : ( البت دي ليها حق . بس البت دي ما عارفه انه الدنيا ما دوامة . يوم ليك و يوم عليك . و كل مرة بجي زول جديد ) .
في أحدى رحلاتنا كان من المفروض أن ترافقنا زوجة الباشمهندس يوسف و والدتها . و كن مترددات . و لكن عندما وصلنا اكوبوا قالت السيدة لزوج بنتها : ( السواق كان ود حلال . و انا زاتي من ما شفت شلوخ اهلي الدناقلة ارتحت ) . ألا رحم الله استاذي محمد يس . لقد كان مظهره يدعو الى الثقة و الاطمئنان . و كان رجلاً رائعاً . و كان حاسماً عندما يتستدعي الأمر . فبعد رحلة الحدادين و البنائين و النجارين . رفض ان يأخذ اي عمال آخرين . و أذكره يقول لسعد باشكاتب الأشغال : ( انا ما بشيل أي حاجة غير اسمنت و حصاص و خشب . دا لا بشتكي لا بكورك . عمالكم ديل شوفوا ليهم طريقة تاني ) .
عندما رجعنا من البيبور إلى اكوبو كان هنالك استدعاء بواسطة مفتش المركز لأنه كانت هنالك شكوى بأن القندران خرب المجرى للعربات . و كانت تلك بعد مطرة مبكرة . و ذهب محمد يس رحمة الله عليه و لم يقابله فراش المكتب بود . و تحدث مع موظف آخر و كما سمعت من محمد يس ان الموظف استفسر الآخر من بكلمة ( ني ) و أظنها تعني بالدنقلاوية هو أو من ، لا اذكر . و بعدها تغيرت اللغة و حصل الترحيب كما يحدث عند النوبيين عادةً . و المفتش لم يكن موجوداً . وقبل المغرب و بعد ان خرجنا من اكوبو ، حصلتنا عربة كومر الشرطة و قاموا بأرجاعنا الى اكوبو كمعتقلين . و أخذونا لمنزل المفتش مباشرةً . الذي كان من آل الزبير حمد الملك الدناقلة . و كانت دعوة لفطور رمضان . و كانت تلك آخر رحلاتنا مع محمد يس . و لكن كان يعود بعد كل ثلاثة او اربعة ايام من رحلاته و يقضى معنا يومين في المنزل ثم يرجع . و كنت لا امل صحبته و كان يحكي لي الكثير عن الدنيا و عن رحلاته . محمد يس كان انساناً متطوراً جداً . اذكر انه كان عنده كاميرا . و كان يلتقط الصور . و كانت هنالك صورة تمثلني انا على قرب من جاموس اصطاده رجل بوليس تحت اوامر الامباشا انزوكومارا أو ( ساجن ) . لأنه كان الحاكم الفعلي لبلدة واط . و من كبار تجارها العم سعيد صالح رحمة الله عليه .
في رحلتنا الى اكوبو شاهدنا في الليل جوالين على الطريق كانا قد سقطا من لوري . و توقفنا عند محمد الزين و هو تاجر في مدينة ديرور . و توقفنا في عدة اماكن إلى ان وجدنا التاجر قبل بلدة توي شان . و محمد يس رحمة الله عليه كان يقول ان اللوري كان متجه شرقاً و ان الجوالين كانا قد سقطا على الجانب اليمين من الشارع . وقديماً كانت الحركة على اليمين . و هذه فراسة انسان ذكي .
في ايام الانتخابات كان حزب الأمة يناضل لكي يجد موقعاً في أعالي النيل . و كان محمد يس متحمساً و واعياً سياسياً . و كان يعارض حزب الأمة . و كنت وقتها اعتبر نفسي ود انصار و لا اقبل أي كلام في حزب الأمة . و كان الرجل العظيم الحاج ابو الزيد يمثل حزب الأمة . و هو رجل فاضل يحترمه الجميع . و يركب على جيب مفتوح مكتوب عليه شعار حزب الامة ( حزب الامة رمز القوة ) . و في تلك الايام حضر الأخ سراج سعيد قطب حزب الأمة و قائد كوادرها المصادمة . و كان قد أتى على باخرة السيد عبد الرحمن المهدي الطاهرة . و كانوا يشترون اصوات الجنوبيين . و يحملون الكثير من الهدايا مثل العجلات الرالي .
و كان الوطني الاتحادي ممثلاً بالعضو البرلماني علي كاشف . و كان هنالك القطب العم عبد القادر عبد النبي رحمة الله على الجميع . و في أحد الايام وقفنا على قرية قنطوط جنوب السوباط . وجدنا تجمعاً من الدينكا . تعرفنا وسطهم على الأخ اتيم و صديقه اوو الذي يتميز بقصر القامة . و طلب محمد يس من اتيم ان يخبر أهله بالتصويت للوطني الاتحادي . إلّا ان اتيم قال انه سيصوت لحزب الامة لأنهم وعدوا شيخهم في بلدة اوتل بأنهم سيصوتون للأمة . لأن حزب الأمة قد دفع لشيخهم . و أكتفى محمد يس بأن قال له : ( لا مادام وعدت و حلفت تنفذ وعدك ) . و أحسست هنا بروعة محمد يس في تقبل الآخرين . و كل تلك الليالي على ظهر القندران و النوم في حوش المنزل في ملكال ، لم ينتقد محمد يس ابداً قناعتي او يحاول أن يغير افكاري .
عندما قابلت محمد يس لآخر مرة في سنة 1963 ، كان قد انقضت اربعة سنوات منذ لقائنا الآخير . لمح ضاحكاً بأنني قد صرت رجلاً ملئ هدومي . قضينا ساعات في الحديث و الونسة . و آخيراً قال لي بأن قد لاحظ أن امور خالي اسماعيل قد تضعضعت في ملكال . و أن الدنيا قد تغيرت كثيراً خاصة بعد سيطرة العسكر في أعالي النيل بسبب الاضطرابات . و أن بعض الظباط صاروا يدخلون في التجارة . و صارت الرشوة متفشية لأنعدام الرقابة . و إن اسلوب الخال اسماعيل خليل و اسلوب الحاج محمد عبد الله عبد السلام رحمة الله عليه صار غير ممكناً في التجارة . لأن الصدق و الأمانة و الكلمة قد انتهت . و طلب مني ان افاتح أهلي لكي ينصحوا خالي اسماعيل بترك الجنوب . لأن امانته و انضباطه لن يجدي . و أنه لا يمكن ان يفاتح اسماعيل او يواجهه بهذه الحقيقة . و كان يقول لي : ( انا عارف يا شوقي انت قدر المسئولية دي ) . و افترقنا . قمت انا بمفاتحة اخي كمال ابراهيم بدري الذي هو متزوج بشقيقة والدتي و أمي الاخرى لأن كمال هو اخي غير الشقيق . و انتقل بعدها اسماعيل متعه الله بالصحة الى الشمال . و لا أطن ان حتى اسماعيل يعرف ان تلك كانت نصيحة محمد يس رحمة الله عليه . أخي و استاذي محمد يس رحمة الله عليك . و جزاك الله خيراً لأنك قد احسنت إلىّ كثيراً .
التحية
ع . س . شوقي بدري
///نقلا عن صحيفة الراكوبة الالكترونية/// ١يونيو ٢٠١٢م